فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

مقدمة السورة:
جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها ويعلم كيف يخاطبها ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل؛ والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن لأنها قائمة عليها أصلا في تكوينها الأول. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض؛ وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم؛ وتنحرف بها عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجيء هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه؛ ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه؛ ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله مستقيما مع العقيدة مستقيما مع الفطرة مستقيما على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير.
وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى ومن زوايا منوعة تتناول القلب البشري من جميع أقطاره؛ وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها.
هذه القضية الواحدة- قضية العقيدة- تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل الله والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات.
والسورة تتولى عرض هذه القضية بطريقة تستدعي التدبر لإدراك الأسلوب القرآني العجيب في مخاطبة الفطر والقلوب. وكل داع إلى الله في حاجة إلى تدبر هذا الأسلوب.
إنها تعرض هذه القضية في مجال العرض القرآني. وهو هذا الكون الكبير. سماؤه وأرضه. شمسه وقمره. نهاره وليله. أجواؤه وبحاره أمواجه وأمطاره. نباته وأشجاره. وهذا المجال الكوني يتكرر في القرآن الكريم. فيحيل الكون كله مؤثرات ناطقة وآيات مبثوثة عن الإيمان والشمائل تخاطب القلوب البشرية وتؤثر فيها وتستحييها وتأخذ عليها المسالك والدروب.
ومع أن القضية واحدة ومجال العرض واحد فإنها تعرض في السورة أربع مرات في أربع جولات تطوف كل منها بالقلب البشري في ذلك المجال الفسيح مستصحبة في كل مرة مؤثرات جديدة ومتبعة أسلوبا كذلك جديدا في العرض والتناول. وتتبع هذه الجولات وهي تبدأ وتنتهي بطريقة عجيبة فيه متاعللقلب والعقل. إلى جانب ما فيه من دواعي التأثر والاستجابة.
تبدأ الجولة الأولى بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطعة؛ فتقرر أن هذه السورة من جنس تلك الأحرف هي آيات الكتاب الحكيم وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون} فتقرر قضية اليقين بالآخرة وقضية العبادة لله. ومعها مؤثر نفسي ملحوظ هو أن {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} ومن ذا الذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟. وفي الجانب الآخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذ تلك الآيات هزوا. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثر نفسي مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله: {أولئك لهم عذاب مهين}. ثم يمضي في وصف حركات هذا الفريق: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها}. ومع الوصف مؤثر نفسي يحقر هذا الفريق: {كأن في أذنيه وقرا} ومؤثر آخر يخيفه مع التهكم الواضح في التعبير: {فبشره بعذاب أليم} والبشارة هنا فيها ما فيها من التهكم الملحوظ!. ثم يعود إلى المؤمنين يفصل شيئا من فلاحهم الذي أجمله في أول السورة ويبين جزاءهم في الآخرة كما كشف عن جزاء المستهزئين المستكبرين: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم}. وهنا يعرض صفحة الكون الكبير محالا للبرهان الذي يطالع الفطرة من كل جانب ويخاطبها بكل لسان ويواجهها بالحق الهائل الذي يمر عليه الناس غافلين: {خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم}. وأمام هذه الأدلة الكونية التي تهول الحس وتبده الشعور يأخذ بتلابيب القلوب الشاردة التي تجعل لله شركاء وهي ترى خلقه الهائل العظيم: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين}.
وعند هذا الإيقاع الكوني الضخم العميق تنتهي الجولة الأولى بقضاياها ومؤثراتها معروضة في ساحة الكون الكبير.
فأما الجولة الثانية فتبدأ من خلال نفوس آدمية وتتناول القضية ذاتها في المجال ذاته بأسلوب جديد ومؤثرات جديدة.
{ولقد آتينا لقمان الحكمة} فما طبيعة هذه الحكمة وما مظهرها الفريد؟ إنها تتلخص في الاتجاه لله بالشكر: {أن اشكر لله} فهذه هي الحكمة وهذا هو الاتجاه الحكيم. والخطوة التالية هي اتجاه لقمان لابنه بالنصيحة: نصيحة حكيم لابنه. فهي نصيحة مبرأة من العيب صاحبها قد أوتي الحكمة. وهي نصيحة غير متهمة فما يمكن أن تتهم نصيحة والد لولده. هذه النصيحة تقرر قضية التوحيد التي قررتها الجولة الأولى وقضية الآخرة كذلك مصحوبة بهذه المؤثرات النفسية ومعها مؤثرات جديدة: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}. ويؤكد هذه القضية بمؤثر آخر فيعرض لعلاقة الأبوة والأمومة بأسلوب يفيض انعطافا ورحمة: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين} ويقرن قضية الشكر لله بالشكر لهذين الوالدين فيقدمها عليها: أن اشكر لي ولوالديك. ثم يقرر القاعدة الأولى في قضية العقيدة وهي أن وشيجة العقيدة هي الوشيجة الأولى المقدمة على وشيجة النسب والدم. وعلى ما في هذه الوشيجة من انعطاف وقوة إلا أنها تالية للوشيجة الأولى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي}. ويقرر معها قضية الآخرة: {ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}. ويتبع هذه القضية بمؤثر هائل وهويصور عظمة علم الله ودقته وشموله وإحاطته تصويرا يرتعش له الوجدان البشري وهو يتابعه في المجال الكوني الرحيب: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير}. ثم يتابع لقمان وصيته لابنه بتكاليف العقيدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يستتبعه هذا وذلك من مواجهة المتاعب التي لابد أن تواجه صاحب العقيدة وهو يخطو بها الخطوة الطبيعية فيتجاوز بها نفسه إلى غيره: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}. ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصاب الأدب الواجب. أدب الداعي إلى الله. ألا يتطاول على الناس فيفسد بالقدوة ما يصلح بالكلام: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}. والمؤثر النفسي بتحقير التصعير والنفخة ملحوظ في التعبير. وبه تنتهي هذه الجولة الثانية وقد عالجت القضية ذاتها في مجالها المعهود بمؤثرات جديدة وبأسوب جديد.
ثم تبدأ الجولة الثالثة. تبدأ بعرض القضية المعهودة في مجال السماوات والأرض مصحوبة بمؤثر منتزع من علاقة البشر بالسماوات والأرض وما فيها من نعم سخرها الله للناس وهم لا يشكرون: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير}. وفي ظل هذا المؤثر يبدو الجدل في الله مستنكرا من الفطرة تمجه القلوب المستقيمة. ثم يتابع استنكار موقف الكفر والجمود: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. وهو موقف سخيف مطموس يتبعه بمؤثر مخيف: أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟. ومن ثم يعرض قضية الجزاء في الآخرة مرتبطة بقضية الإيمان والكفر: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا}. ويشير إلى علم الله الواسع الدقيق: {إن الله عليم بذات الصدور}. ويصحب ذلك العرض بتهديد مخيف: {نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}. وقرب ختام الجولة يقفهم وجها لوجه أمام منطق الفطرة وهي تواجه هذا الكون فلا تملك إلا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}. ويختم الجولة بمشهد كوني يصور امتداد علم الله بلا نهاية وانطلاق مشيئته في الخلق والإنشاء بلا حدود؛ ويجعل من هذا دليلا كونيا على البعث والإعادة وعلى الخلق والإنشاء: {وَلَوْ أَنَّما في الْأَرْض منْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفدَتْ كَلماتُ اللَّه إنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ} ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. إن الله سميع بصير.
وتبدأ الجولة الرابعة بمشهد كوني ذي إيقاع خاص في القلب البشري. مشهد الليل وهو يطول فيدخل في جسم النهار ويمتد؛ والنهار وهو يطول فيدخل في جسم الليل ويمتد. ومشهد الشمس والقمر مسخرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلا خالقهما الخبير بهما وبالناس وبما يعملون: {ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير}. ويتخذ من هذا المشهد الكوني دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير}. ويلمس القلوب بمؤثر آخر من نعمة الله على الناس في صورة الفلك التي تجري في البحر: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته} ويعقب على هذا بوقفهم أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر مجردة من غرور القدرة والعلمالذي يبعدها عن بارئها؛ ويتخذ من هذا المنطق دليلا على قضية التوحيد: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور}. وبمناسبة موج البحر وهو له يذكرهم بالهول الأكبر وهو يقرر قضية الآخرة. الهول الذي يفصم وشائج الدم التي لا يفصلها في الدنيا هول: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}. وعند هذا المقطع وهذا المؤثر الذي يرتجف له الكيان يختم السورة بآية تقرر القضايا التي عالجتها جميعا في إيقاع قوي عميق مرهوب: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}.
هذه الجولات الأربع بأساليبها ومؤثراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب. هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب العليم بمداخلها. الخبير بما يصلح لها وما تصلح به من الأساليب. اهـ.

.قال الصابوني:

سورة لقمان مكية وآياتها أربع وثلاثون آية.

.بين يدي السورة:

هذه السورة الكريمة سورة لقمان من السور المكية التي تعالج موضوع العقيدة وتعنى بالتركيز على الأصول الثلاثة لعقيدة الإيمان وهي الوحدانية والنبؤة والبعث والنشور كما هو الحال في السور المكية.
ابتدأت السورة الكريمة بذكر الكتاب الحكيم معجزة محمد الخالدة الباقية الدائمة على مدى الزمان وأقامت الحجج والبراهين على وحدانية رب العالمين وذكرت دلائل القدرة الباهرة والإبداع العجيب في هذا الكون الفسيح المحكم النظام المتناسق في التكوين في سمائه وأرضه وشمسه وقمره ونهاره وليله وفي جباله وبحاره وأمواجه وأمطا ره ونبأته وأشجا ره وفي سائر ما يشاهده المرء من دلائل القدرة والوحدانية مما يأخذ القلب ويبهر العقل ويواجه الإنسان مواجهة جاهرة لا يملك معها إلا التسليم بقدرة الخالق العظيم {الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون} الآيات.
كما لفتت أنظار المشركين إلى دلائل القدرة والوحدانية منبثة في هذا الكون البديع وهزت كيانهم هزا {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين}.
وختمت السورة الكريمة بالتحذير من ذلك اليوم الرهيب الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون {يا أيها الناس اتقوا ريكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن والده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} الآية.

.التسمية:

سميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة لقمان الحكيم التي تضمنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله تعالى وصفاته وذم الشرك والأمر بمكارم الأخلاق والنهي عن القبائح والمنكرات وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة التي أنطقه الله بها وكانت من الحكمة والرشاد بمكان!. اهـ.